السّياسة أساسا كلام و فعل. فأمّا الكلام ، فهو الخطاب السّياسي و منه، مجموعة الحجج المقدّمة ، مجموعة المفاهيم و الألفاظ اللّتي يتمّ تركيزها في الوعي العام باستعمالها من قبل ممتهني الميدان السّياسي. أمّا الفعل وهو الممارسة السّياسيّة فمنه القرارات و التّراتيب و القوانين و الإحتجاج و تأطيره و الأحكام اللّتي يتمّ تنفيذها ، فيترسّخ الفعل كذلك في الوعي العام للمجموعة البشريّة المعنيّة. و تذكر الكتب الجميلة عن الفكر السّياسي ، المتّفق فيه على أهمّيّة و حتميّة تواجد « الدّولة » بمفهومها الحديث ، أنّ الممارسة السّياسيّة تفترض توافقا بين الفعل و الخطاب ، و تفترض وضوحا في الخطاب و درجة من النّزاهة و الوضوح المفهومي و التّكامل المنطقيّ ، على فرضيّة احتساب أفراد المجموعة البشريّة المعنيّة بالشّأن السّياسي (سواء كانوا مجموعة محلية ، شعبا ، مجموعة شعوب ، أو البشريّة جمعاء) كمواطنين لا كرعيّة أو رعاع. فمفهوم السّياسة الحديث مرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم المواطنة. هذا ما تفترضه طبعا جملة النّظريّات المنمّقة. غير أنّ الواقع غير ذلك ، على الأقلّ بالنّسبة للحالة التّونسيّة. لا يسمح لي المجال الآن (و لا الإهتمام) بتناول هذا الموضوع على صعيد أوسع و أشمل و أعمق ، لكن لن يعدم أحد من الأمثلة في كافّة دول العالم عن تباين الفعل و الخطاب من جهة ، و عن كثافة استبلاه من يفترض أن يكونوا مواطنين في الخطاب السّياسي ، الحكومي منه خصوصا. قد يعود هذا الوضع المتناقض إلى مفارقة فرضيّة أوّليّة تتواتر في الكتب المنمّقة . تقول هذه الفرضيّة أنّ وجود الأحزاب ، الغاية منها تنفيذ برامج و رؤى و ليست السّلطة -كحالة تتجاوز الإنسان- سوى طريق لتنفيذ ، بينما يدلّل الواقع على أنّ السّلطة غاية في نفسها و لنفسها ، و ما هذه البرامج المدّعاة سوى مطيّة أخرى من مطايا الخطاب السّياسي.
كنت قد بيّنت سابقا في هذا المقال حالة من حالات التّلاعب بالخطاب السّياسي الحكومي. و رغم تغيّر عنوان القائمين على السّلطة ، فإنّ الإستبلاه نفسه لا يزال قائم الذّات من أجل نفس الغايات و في نفس السّياقات. فمنذ « اختفاء » بن علي من على الواجهة يوم 14 جانفي 2011 ، تمّ طرح مطالب معيّنة في إطار المسار الثّوري (و الإصلاحيّ كذلك) حظيت بعضها بدعم و شبه توافق شعبي . و لعلّ أبرز مطلب قدر على تسطير خطّ أحمر وطني ، مطلب المحاسبة ، سواء محاسبة القتلة أو النّاهبين و مستبيحي البلاد. قام الخطاب الحكومي آنذاك على طرح مغاير لطرح المحاسبة ، و هو طرح المصالحة من دون تصوّر لخطوط حمر أخلاقيّة ، و أمتعنا الوزير الأوّل السّابق الغنّوشي (ليس ذاك اللّذي رضي الله عنه، بل الآخر) و مريدوه بتنويعات على « نظافة اليد » ، و محدّد نظافة اليد من حينها محدّد ذاتي. فكمال مرجان تمّ تسويق نظافة يده رغم انخراطه التّبريري و السّياسي و التّنظيمي في منظومة القمع و الفساد ، و مروان مبروك كذلك « نظيف » رغم كونه أحد أبرز المنتفعين (لحد الآن) بوضع الفساد « الحاشياتي » (مشتق من « حاشية ») و فساد المنظومة الماليّة التّفاضليّة المنحازة للمراكم أمواله ، و خرج علينا « النّظيف » أحمد فريعة ، و « النّظيف » هادي الجيلاني ، و « النّظيف » اسماعيل السّحباني ، و « النّظيف » المنصف لعجيمي. لم يتغيّر هذا الطّرح في عهد المأسوف عليه من أيتامه ب.ق.س ، لكن أمام احتشاد الرّأي العام ، خصوصا بعد تباطؤ عمل اللّجنة المكلّفة بتقصّي الحقائق (اللّتي أثبتت في تقريرها على قدرة شعريّة تظاهي جماليّات شعر الإنحطاط من مبتدع و محسن) ، و بعد تلكّؤ المحاكمات و صرخة الفزع اللّتي أطلقها المحامون (مجموعة ال 25 اللّتي قامت برفع قضايا الفساد أمام المحاكم ، بعد استقالة الدّولة التّونسيّة اللّتي تصارع كي تبقى و لا ترتضي أن تحاكم نفسها). حينها انطلقت التّحضيرات لمظاهرة 15 أوت المطالبة باستقلال القضاء ، إذ أنّ الخطاب الحكوميّ حينها وجد ضالّته في إطار اتّفاق غير معلن و وحدة موضوعيّة مع كافّة الأطياف السّياسيّة اللّتي كانت تحاول خوض معركة القضاء كمعركة مواقع. تكمن هذه الضّالّة في حجّة أقنعت الكثيرين لأسباب سياسيويّة ، و هي القول بأنّ الحكومة لا دخل لها في سيرورة المحاسبة ، فهي تدعم استقلال القضاء ، و القضاء هو المسؤول على المحاسبة. و لمّا كان القضاء (ولا زال) مرتعا لأبناء الإدارة/الدّولة (العمود الفقري للنّظام المتواصل) و بالتّالي يحمل من الأدران ما لا يجهله أحد ، فقد قبل الجميع -عدا بعض الإستثناءات من النّشطاء المستقلّين- بالحجّة.و هاهو سمير ديلو في ظهور تلفزي يوم 15 ماي 2012 يلجم صوت المحامي عمر الصّفراوي باستعمال نفس هذه الحجّة قائلا له : « لا ترمونا بالمحاسبة فهي من اختصاص القضاء، و لا دخل للحكومة بالقضاء فالحكومة تريد أن يظلّ القضاء مستقلاّ » .
بادئ ذي بدء ، يستوجب هذا القول بعض التّوضيحات لاستبيان ما ينطويه من استبلاه مباشر للمواطن قولا/الرّعيّة فعلا. أيّام بن علي ، لم يكن هذا الأخير يكذب حين يتبجّح بدولة القانون و أنّه لا يوجد شيء في تونس اسمه « سجين سياسي » . فكلّ خصم سياسي قرّر النّظام وخزه أو ضربه على أياديه أو التّخلّص منه ، لا تلفّق له تهمة بقدر ما ينصب له فخّ إداري. فالملفّ اللّذي يصل إلى حضرة القاضي لا غبار عليه من ناحية إداريّة قانونيّة بحتة. بل الغبار يأتي من ما قبل القضاء ، في مرحلة تكوين الملفّ نفسه. و هذه المرحلة تكون مناصفة بين ممثّلين عن السّلطة التّنفيذيّة (شرطة) و نقط وصل السّلطة التّنفيذيّة بالسّلطة القضائيّة (وكيل الجمهوريّة ، قاضي التّحقيق). و كان القانون يعفس عليه في هذا الجزء. بطريقة أوضح : ملفّ متكامل تمّ تعميره و ملؤه ، تضعه بين يدي أنزه قاض ، لا يستطيع هذا الأخير أن يفعل لك شيئا و إن عرف من قرارة نفسه بما لا يدع مجالا للشّكّ أنّ داعي مثولك أمامه لا علاقة له إلاّ بآرائك أو بفساد النّظام ، بينما ملفّ ضعيف يفتقد للأسندة و الأدلّة ، تضعه بين يدي أفسد قاض ، لا يستطيع إدانتك به. و هذا كان إحدى مكامن قوّة بن علي في حربه على خصومه و سلاحا يستعمله في التّفاوض مع معارضيه بكافّة أشكالهم. و أحد أهمّ الأشخاص القائمين على الوصل كان قاضي التّحقيق زياد سويدان ، اللّذي اشتغل على كافّة ملفّات المساجين ، و اللّذي تمّ فصله غداة اختفاء بن علي، قبل أن يختفي بدوره و يفرّ إلى وجهة غير معلومة. و هذا طبعا من باب المصادفة.
دون إغفال دور القضاء في المحاسبة و تأثير فساده ، يتبيّن لنا الدّور الهام و الجوهري اللّذي تضطلع به الحكومة ، ممثّلة في أداتها التّنفيذيّة بامتياز ألا وهي وزارة الدّاخليّة و الإدارات المعنيّة ، في المحاسبة. فمن دون إرادة سياسيّة للسّير بالمحاسبة في طريقها ، لن تكون هناك ملفّات و وثائق و أدلّة تسمح بمحاكمة المجرمين ، خصوصا أنّ الشّهادات وحدها قابلة للتّأويلات و التّضارب و الإتّفاقيّات المخفيّة. و لا أعتقد أنّ هذا الشّيء كان يخفى عن الغنّوشي و ب.ق.س و سمير ديلو. لكنّ اتّفاقهم الثّلاثة على نفس الخطاب يدلّل على مواصلة النّهج الإلتفافي بغية الحفاظ على نقاط قوّة المركز السّلطوي لمثال الدّولة في تونس و من ثمّ السّيطرة عليه آنفا عبر الأجهزة الحزبيّة. و مواصلة في الإستبلاه ، تجد من يسرّب هنا و هناك أنباء عن انشقاقات و ضغوطات و تهديدات ، بينما تنبني الإدارة التّونسيّة على الإرادة السّياسيّة للماسك بزمامها. فإن توفّرت إرادة سياسيّة لسلوك المنهج الثّوري، كان للحكومة ذلك. و إن توفّرت إرادة سياسيّة لسلوك المنهج الإصلاحي ، كان للحكومة ذلك ، و إن توفّرت إرادة سياسيّة لسلوك المنهج الإنتهازيّ كما هو الحال الآن ، تظلّ المحاسبة تراوح مكانها ، يتملّص الجميع من مشؤوليّة ركودها ، في انتظار مرور الوقت اللّذي تعيد فيه قوى الإلتفاف تمركزها بالكامل.
و للحديث بقيّة …