لن أطيل في الحديث عن مساوئ هذا التّمشّي ، أو أسبابه. لكن ، و في محاولة منّي لدرء مساوئ مثل هذا التّمشّي ، فقد قرّرت أن أعود فينة بعد فينة ، إلى مواضيع غاية في الأهمّيّة ، أحيانا بالبسط و الطّرح ، و أحيانا بالتّحليل و تارة أخرى بإبداء الرّأي.
في محاولة بسيطة لتفسير مدى أهمّيّة « مسودّة دستور » ، على عكس ما ادّعى السّيّد حبيب خذر في وسائل الإعلام ، محاولا التّقليل من أهمّيّة المسودّة و صرف الأنظار عنها ، مستعينا بصمت المعارضة الرّسميّة المشبوه.
صدرت هذه المسودّة يوم 9 جانفي 1957 ، أي قبل الإنقلاب على الباي، حين كانت تتّجه النّيّة لنظام « ملكي دستوري ». و هذه أبرز الفصول المتعلّقة بالباي ، و اللّتي تمّ تغييرها لاحقا ، و هي مأخوذة من باب السّلطة التّنفيذيّة :
الفصل 76 : الملك رئيس الدّولة ، دينه الإسلام
الفصل 77 : يؤدّي الملك عند ولايته أمام مجلس الأمّة اليمين الآتية « أقسم بالله العظيم أن أحترم دستور البلاد و قانونها و أحافظ على استقلالها و سلامتها »
الفصل 78 : مقر الملك بعاصمة المملكة أو أحوازها يتنقل الملك داخل البلاد و خارجها بموافقة الحكومة
الفصل 79 : يتمتع الملك بالحصانة ولا يجوز محاكمته الا اذا اتهم بالخيانة العظمى من طرف ثلثي أعضاء مجلس الأمة.
الفصل 80 : للملك حق العفو في الاحكام بالإعدام حسب التراتيب اللتي يضبطها القانون
الفصل 81 : الملك يعتمد الممثلين السياسيين للدولة في الخارج و يقبل اعتماد ممثلي الدول الأجنبيّة
الفصل 82 : يطلع الملك على سير المفاوضات مع الدول الأجنبية و يختم المعاهدات و يشهر الحرب و يبرم الصّلح بقرار من المجلس الوطني
الفصل 83 : يكلف الملك عضوا من بين أعضاء المجلس الوطني بتشكيل الحكومة و يصادق على توليته بعد احرازه على ثقة المجلس الوطني بالأغلبيّة.
الفصل 84 : يختم الملك النّصوص التّشريعيّة لتنشر بالرّائد الرّسمي في أجل لا يتجاوز الخمسة ايّام الموالية للمصادقة عليها من طرف المجلس الوطني ، والا فإن رئيس المجلس الوطني يتولى ذلك في امد لا يتجاوز العشرة أيام من الأجل نفسه، و يجب أن تكون جميع النصوص ممضاة من رئيس الحكومة و من الوزير المختص
الفصل 85 : الملك يترأس مهرجانات الأعياد الرسميّة و يمنح الأوسمة بطلب من رئيس الحكومة
الفصل 86 : عند تغيّب الملك فان رئيس المجلس الوطني ينوبه رئيس الحكومة
ما يمكن ملاحظته للوهلة الأولى في هذه الفصول هو تهرّب من اسداء صلاحيّات ، غير تلك التّشريفيّة ، للملك. عادة يقابل هذا الحصر في الصّلوحيّات ، في الأنظمة الملكيّة الدّستوريّة ، توكيل البرلمان بنفس الصّلوحيّات اللّتي تمّ انتزاعها . لكن النّيّة المبيّتة لمركزة السّلطات في يد جهاز واحد جعلت ما يرد من فصول أخرى أكثر وضوحا ، بخصوص ما ستؤول إليه حالة البلاد و الدّولة. ففي بقيّة فصول باب السّلطة التّنفيذيّة ، يتمّ افراد بقيّة الصّلوحيّات مباشرة لرئيس الحكومة (حبيب بورقيبة في ذلك الوقت) . و قد ورد في المسودّة :
الفصل 87 : رئيس الحكومة هو رئيس مجلس الوزراء
الفصل 88 : رئيس الحكومة يضبط سير السياسة العامة اللتي تتبعها الحكومة و هو اللذي يختار اعضاء حكومته و له تحويرها و هو المسؤول عن أعمال حكومته لدى المجلس الوطني
الفصل 89 : رئيس الحكومة يسهر على تنفيذ النصوص التشريعية و هو الذي يولي جميع الموظفين المدنيين و العسكريين حسب القانون
الفصل 90 : يتولى رئيس مجلس الوزراء شؤون الحكم طيلة المدّة اللتي انتخب لها المجلس الوطني و يساعده في ذلك وزراء يقع تعيينهم بمقتضى الفصل 88
الفصل 91 : تستقيل الحكومة اذا وافق مجلس النواب بالأغلبية المطلقة على طلب بسحب الثقة من الحكومة مقدم من خمس اعضاء المجلس على الأقل.
الفصل 92 : لرئيس مجلس الوزراء وحده ، و في كل وقت ان يطلب تجديد الثقة بوزارته من المجلس الوطني
الفصل 93 : يجري الاقتراع على الثقة بالحكومة او سحبها منها من طرف المجلس الوطني بعد يوم من طلب تجديد الثقة، يكون الاقتراع كتابيا باوراق حاملة اسماء المقترعين للإعلان بالنتيجة و تستقيل الوزارة انا رفض المجلس الوطني الثقة بها بالاغلبية المطلقة.
الفصل 94 : رئيس الدّولة و أعضاء الحكومة مسؤولون عما يرتكبونه من الجنح و الجنايات و خاصة الجناية العظمى اثناء اضطلاعهم بوظيفتهم.
إلى حدّ الآن ، نستطيع أن نستشفّ بوضوح معالم ما آلت إليه البلاد سياسيّا بعد ذلك : سلطات مركّزة بيد شخص/جهاز ، تارة اسمه رئيس الحكومة و طورا رئيس الدّولة (الفصل 94) ، ابهام و تداخل في مهام المجلس (مجلس نواب/مجلس وطني) اللّذي يلعب خصوصا دور « المرافق » أكثر منه دور الرّقيب ، و المكلّف عادة بالمصادقة على سياسات حدّدت خارج نطاقه.
بالمرور إلى باب السّلطة التّشريعيّة ، تصير الصّورة أكثر وضوحا. فقد كان من المقرّر بعث مجلسين ، أحدهما برلمان و الثّاني مجلس شورى. و هو ما تمّت العودة إليه بعد سنوات ، في عهد زين العابدين بن علي. و هاته بعض الفصول الموضّحة :
الفصل 31 : يمارس الشّعب السّلطة التّشريعيّة بواسطة مجلس نيابي يسمّى المجلس الوطني
الفصل 32 : ينتخب المجلس الوطني انتخابا عاما حرا مباشرا سريا على قاعدة التمثيل الترابي
الفصل 52 : للمجلس الوطني وحده حق سن القوانين بدون انابة الغير في ممارسة هذا الحق
الفصل 53 : للحكومة و لكل نائب بالمجلس الوطني حق عرض مشاريع القوانين
الفصل 56 : للمجلس الوطني حق تأليف لجان تحقيق في كل أمر و على الوزراء و جميع موظفي الدولة أن يقدموا كل ما تطلبه منهم من وثائق و بيانات.
حين صدور هذه المسودّة ، كانت النّيّة مبيّتة للتّخلّص من الباي. لكن الظّروف لم تكن قد نضجت بعد. فجاءت هذه المسودّة معبّرة عن هاته النّيّة. كما كان السّاسة مقتنعين (عن إرادة أو واقعيّة سياسيّة أو انتهازيّة أو تسليما) بأنّ لبورقيبة اليد العليا و أنّه يبحث عن احتكار موقع صاحب القرار. فكان ذلك حاضرا و مرئيا أيضا في المسودّة. كذلك التّداخل بين السّلطة التّشريعيّة و السّلطة التّنفيذيّة (الفصل 53) و الاحتكام للمحاصصة الحزبيّة اللّتي يمتلكها حزب الدّستور بصورة حصريّة. بعد التّخلّص من الباي ، تمّ افراغ منصب رئيس الحكومة من طابعه السّياسي ، و سحب بعض النّفوذ من المجلس الوطني و التّخلّي عن المجلس الثّاني (مجلس الشّورى) ، و كانت هذه الخطوات وفيّة للنّوايا السّياسيّة المعبّر عنها في المسودّة.
هذا المثال المستقى من التّاريخ المعاصر للبلاد دليل على مدى اعتماد السّاسة (النّهضة خصوصا هنا بوصفها صاحبة النفوذ و السّلطة) على استبلاه النّاس و استغبائهم. فالمسودّة ، و إن لم تكن سوى مسودّة كما قال الأستاذ ، هي عبارة عن رسم بالأشعّة للجسد المرتقب / المرغوب للبلاد في المستقبل.
للأسف لا يمكن في مقال كهذا استيفاء تحليل شامل و كامل ، و مقارنة كاملة لسيرورة المسودّة منذ 1957 ، لمحاولة استقراء ما يمكن أن تجود به المسودّة الحالية. في انتظار أن يهتمّ أحد المثقّفين أو الخبراء أو « المعارضين » الأجلاء بهذا الموضوع ، لما له من أهمّيّة.
* Buzz