تنويه : النّصّ هذا تنشر كتقديم لترجمة الفتى الجندوبي (ضياء بوسالمي) لمذكرات أبي القاسم الشابي من العربية الفصحى للدارجة التونسية. الكتاب تلقاوه في مكتبة الكتاب، بعشرة الاف النسخة.
لطالما شكلت الدارجة التونسية، كما تم الإصطلاح المثقف على تسميتها، منبعا لعديد الجدالات، حين مرورها إلى الرقن و الكتابة، من معتبر لها مجرد لهجة دنيا و للمدافعين عنها كمتاريس لمشاريع انسلاخ ثقافي، إلى معتبر لها سلاحا سياسيا لفصل تونس عن الثقافة العربية و دعم نظرية « الشخصية التونسية » اللتي نظر لها بورقيبة منذ بدايات القرن العشرين. لم يختلف أحد في الإقرار الضمني أن مكان الدارجة الوحيد هو مجال الهزل و الخفيف من الأشياء، فأعتى اللذين اشتغلوا على التراث الشعبي و دافعوا عن انتماء أمازيغي لازال يتجلى في خرافات العشائر، لم يجرأ النظر إلى قصائد البرغوثي و العربي النجار بنفس المنظار النقدي الأدبي المعتمد حين التعامل مع بودلير و أبي العتاهية. حتى محاولات السبعينات و الثمانينات لدى شعراء حركة الطليعة اقتصرت على التطعيم بملفوظات عامية، تنبع قوتها في عاميتها لا في كونها بناء لغويا مستقلا بذاته . لم يتم إذن، إلى حد الآن التعامل بجدية مع إمكانية أن تكون الدارجة التونسية حقا لغة. عكس ما يعتبره ضياء، و غيره من الكتاب القادمين بعد انفجار الآفاق المحددة لماهو مسموح به و ما هو غير مسموح به. اعتبار لا يحتاج إلى أدلجة و لا تأصيل حكايات و أساطير الأسباب و المسببات. التونسية لغة بحكم الفعل، و يقع الآن البحث عبر الممارسة عن منظومة نحوية توافقية بين جميع لهجاتها. ليس لأن العربية قاصرة، بل لأن مجموعة ما تمارس نشاطها اللغوي بطريقة مختلفة عن العربية الفصحى منذ قرون، إلى درجة صارت فيها قادرة عن التعبير الكتابي المباشر.
هل يمكن ترجمة نص من العربية إلى الدارجة؟؟؟ أغامر بالقول : نعم. انطلاقا من أمر سهل، قد لا يوافقه العديدون كدليل لأنه لن يستوجب الكثير من التحبير و المصطلحات الفخمة. أعتبر أنه من الممكن ترجمة نص من العربية إلى الدارجة، بما أن أحدا لم يبد اعتراضا على ترجمة العبارات و المصطلحات الدارجة إلى العربية، في أعمال بشير خريف و علي الدوعاجي و الروائيين التونسيين المعاصرين مثل كمال الرياحي و أيمن الدبوسي. الترجمة علاقة ثنائية، إن ترجمت من ألف إلى ياء، فتعريفا تستطيع الترجمة من ياء إلى ألف. ليس في الأمر موقف سياسي أو حضاري، بل مجرد اهتمام معرفي و جمالي.
لغويا، أبو القاسم الشابي تجربة مسلية. يتجلى ذلك في عربيته الخاصة، بتركيباتها و عباراتها و المدى اللذي يرسل إليه المجال. في اختلاف عن الرومنطقيين الكبار من معاصريه، تعلم أبو القاسم قراءة و كتابة العربية اللتي أحبها حين قراءته لامارتين، مترجما للعربية. تراكيب تم تعبير احساسها و صياغة أفكارها بالفرنسية، نقلت إلى عربية طوعت بالذمة لرسم هاته الصور الغريبة عن ثقافة الصحراء، هاته هي العربية اللتي صنعها و أبدع في صياغة الصور بها صديقنا أبو القاسم، في حين كان جبران يفكر و يزن بالأنقليزية و يكتب بالعربية اللتي تعلمها، و كان ميخائيل نعيمة يقرأ النصوص بلغاتها الفرنسية و الأنقليزية و يصوغ نصوصه بالعربية اللتي درسها و امتكنها. لست أدعي أن أبا القاسم لم يكن عربي المهجة و الهوى، و إلا لما أطلق صرخته الحادة عن المخيال العربي الفقير، و لا أنه لم يكن متشبعا بالعربية القحة الفحلة، غير أن هواه قاده نحو عربية لامارتين.
هذا عن أبي القاسم، و الأمر الأدبي المسلي في لغته، و هنا أقصد بالتسلية تلك المتعة الجمالية الدافعة بمجموعة من الأحاسيس العذبة. لكن، هل قرأنا لبلقاسم؟؟؟ نعم، بلقاسم الشابي، كما كان يناديه أقرانه و أهله و أحباؤه، اسمه المنطوق. فأبو القاسم ليس سوى اسم الإمضاء، ذاك اللذي سيعطيه الحق في أن يكون مقروءا بسهولة في كامل ربوع العالم العربي، الإسم اللذي ليس اسمه اليومي.
بينما الإنسان اللذي يكتب هو، قبل كل شيء، مراكمة توليفية لذلك الإنسان اليومي. بين بلقاسم و أبي القاسم، كان هناك جسر ترجمة، يمر من الدارجة نحو العربية الفصحى، و في نص هو ذاتي قبل كل شيء. و في نص أبي القاسم، يختبئ نص بلقاسم. ماذا لو كان الأمر الثقافي حين وجوده مختلفا، و كان من المحترم و السائر أن يكتب أحدهم بالتونسية؟؟؟ لكنا أمام هذا النص، مفعما بدفء أكبر و رعشة أكثر، رعشة تدفق المعنى المقصود بين الحروف كتدفق الدماء في العروق.
و ذاك ما أراه جديرا بالإهتمام و ما يفعله ضياء بوسالمي هنا : إعادة الصوت لبلقاسم و محو آثار أشعة رونتجن* اللتي جعلت منه أبا القاسم و علمته العربية الفصحى.
و أخيرا، إجابة على السؤال المستبطن : لماذا اللجوء إلى العربية الفصحى لتقديم كتاب مترجم من العربية إلى الدارجة؟؟؟ فقط للدلالة أنه ليس في الأمر مواجهة، بل اهتمام معرفي و جمالي. و لحث كتاب التونسية الناشئة الإحتفاظ بكنز اللغة العربية. التونسية لن تأتي لتعويض العربية، بل لملء فضاء تعبيري منزلق، يحدث أن يفر منه المعنى من مقصد إلى آخر، و لتفجير مجالات لغوية و جمالية و معرفية جديدة.
* هاذي ما تتفهم كان ما تقرى مذكّرات أبي القاسم الشابي