هي اللّتي فتحت السّبيل أمام « عين العالم » كي يرى ما يحصل في قصرين و في سيدي بوزيد ذات ديسمبر و جانفي منذ سنين مضت. هي اللّتي شقّت طريقا للنّور التّونسي كي ينطلق في العالم ثورة.
هي اللّتي، حين تشتدّ عليك الحياة بين الخاصّ الحارق و العام السالخ للّحم، تهوّن عليك. و تعلم أنّ « هناك لينا » فلا بأس إن استلقيت لمتاعبك الخاصّة. فهي هنا، تواصل العمل. تواصل الدّفاع عن حلم للحياة بعدل و كرامة.
هي اللّتي لن تترك الظّلام وحده يعمّ المكان.
هي اللّتي تتفكّرها متى اعترضك إنسان يحمل أثر القهر و الظّلم في جسده.
هي اللّتي، بـ »لام » زائدة على النحو العربي القديم. هي نحو جديد، و لغة جديدة، تنحت حذو « تاء » المؤنّث « لام لينا » . « هي اللّتي » حرّك فعلها أصنام لغة ، لتضيف بذكراها حرفا. فتصبح كلمة « اللّتي » ذات معنى آخر، غير خطأ الرّسم.
لا أذكر من كان من أباطرة الرّومان، لكن أذكر أنّ أحدهم قال يوما « تلك الفتى » فاعترض على كلامه نحوي المجلس، فأجاب : « أنا إمبراطور لغتي ». كذلك الأثر اللّذي تركته على الأرض تلك الأنثى، دليل المساواة المطلقة، يحقّ له أن ينتصب امبراطورا على اللّغة و يحفر اللام حفرا، لام لينا اللّتي مرّت بنا
فاصل ذاتي : كم أشعر بالفخر و الإمتنان إذ كان لي الحظ بأن أعاصرك عن قريب. قرأت عن العظام و صانعي التاريخ كثيرا حين كنت طفلا، و تمنيت أن أعرف منهم أحدا. ثمّ كبرت، و ها أنت، عشت معك نفس الزّمان و نفس المكان. ما أجمل أن تدرك أن أحد أحلام طفولتك قد تحقّق.
خريف 2008، أحد ليالي العمل الساهرة حتى الفجر بإحدى الشّركات. المكتب خال حتى من صوت الصّراصير، و بين الفينة و الأخرى، أشيح نافذة تطبيقة العمل للانغماس في نقاشات على موقع أزرق. لم يكن في حسابي العديد، و كنت مع سفيان شورابي نمضي الوقت في تسيير مجموعة عن المساواة في الميراث، محاججين كل أنواع المعترضين. لمحت صوتها هناك. و صار المكتب صاخبا، مستهجنا. فجأة، صارت تدخلاتنا أكثر حماسة و أكثر جرأة، الأمر لم يعد نظريا افتراضيا. الأمر إنساني و واقع، صوت لينا كان الدّليل على ذلك.
أمضينا اللّيل في الحديث. مضى بنا الحديث إلى مشاكل الحياة حين تحاول إخراج رأسك من الأغطية المفروضة، و إلى أهمية الحفاظ على الأصدقاء و العائلة دون إضاعة الذّات. دون دخول في التفاصيل، أدرك كل فينا وضعيّة الآخر. فقط هي « محنة » تأتي للواحد فينا، فتلازمه طيل الحياة.
هنالك من يستطيع فسخ ما رآه. و هنالك من لا يستطيع و هم قلّة. بين الذين لا يستطيعون فسخ ما رأوا هنالك من يتمتّع و هنالك من يستهجن و هم قلّة. و بين المستهجنين هنالك من يستكين للهزيمة و هنالك من يحاول الإنتصار و هم قلّة. أولئك هم المحاربون، قلّة من قلّة من قلّة. هذا ما يجعل من لينا ذاك الكنز النّادر. كلّما رأت ظلما، تتحرّك للتنديد و التنكيل به بكلّ ما أوتيت من أسلحة.
نهج نابلس، هناك لمحتك أوّل مرّة. إضراب الجوع الألف بعد المليون. لم نتحدّث كثيرا في السياسة، لم يكن ذاك اهتمامك. كنت ترين المظلومين و المظلومات و حكاياهم و حكاياهن و ترددينها أين استطعت. و لم يكن ذاك بالأمر الهيّن. و كنت أرى كذلك الإستغراب الحاسد في نظر العديد. العديد كان يرى فيك فرصة لحياة الرّفاه إن جاءته لاهتمّ بتحصيل الرّفاه. فتاة شابة تمكنت من الدراسة بالخارج. العديد كان ينظر إليك و أنت تعينينه على استرجاع حقه متسائلا في صمت « لماذا عدت إلى تونس، لماذا لم تستغلي الفرصة للهجرة ». و العديد كان يرى صرخات جسدك في تناقض مع قوّة العمالقة اللّتي تفعّلينها دفاعا عن حقّ مظلوم. كما لمحتك أوّل مرّة، ظللت سؤالا للعديدين من الّذين يرون و ينفون ما رأوا ناصبين للأوهام ذاكرة.
ماي 2010 ، اقترب موعد التّحرّك من أجل المطالبة برفع الحجب، و صار لابدّ من المرور إلى لقاء مباشر لمجموعة العمل المتواجدة بتونس. التقينا في حانة « المالوف ». طاولة جمعت ناسا لن يجتمعوا بعدها. أصررتَ على الإمضاء على مطلب المظاهرة، و أصررتُ على الرفض و إقناعك بالعكس. كنت أخاف عليك مضايقات أخرى، و . كنت تنفرين من أي إحساس بالخوف. اتفقنا أن تكون تلك الخطّة الثّانية، فابتسمت. و صرنا أصدقاء. لا أذكر أننا احتجنا حتّى النّقاش في مثل هاته الأشياء منذ ذلك الحين. « ماذا تعتقد أن علي أن أفعل » ظل سؤالنا المشترك الوحيد. دون ايغال في الحجاج.
لم نحتج التّنسيق في ديسمبر 2010. من ماي، انغرست قناعة دينية في عمودي الفقري : هنالك لينا. ستفعل ما تعلم و تستطيع فعله. سأفعل ما أعلم و أستطيع فعله. لا تقف حركة إن اختفى أحد أفرادها بحكم الإيقاف، هنالك لينا و هنالك سفيان و هنالك نجيب و هنالك عصمت. لن أنسى ما حييت جمال هذا الإحساس، أن تستلقي بينك و بين روحك في مكتب التّحقيق مطمئنّا أنّك لست وحدك. سواء في جانفي 2011 أو ماي 2014. هنالك لينا، فلا فائدة في الفجائع و المخاوف. و من ثمّة امتلأت الذّاكرة بالمشترك. ليس أجمل من أن تكون صديقا لمحاربين. ليس أمتع في الحياة من الوقت الّذي تمضيه مع المحاربين.
من ألاعيب الذّاكرة ضياع اللّغة عن دفء المُعاش و كثافته و ارتعاشه. و من ألاعيب العاطفة محبّة الإحتفاظ بأشياء للذّات، تميّزها عن غيرها.
حين تنظر لي لينا، موجّهة بؤبؤي عينيها إلى الأعلى، بحدّة تتناطر شررا، و نصف ابتسامة، فاعلم أن « وقت العرض » قد حان، و أنّ متعة التّصعيد و المواجهة قادمة، مواجهة عازمة لطوفان شديد التّيّار. سواء في مظاهرة، أو في مسامرة، أو في اجتماع، أو في أي محضر قد يتخيّله الفرد. ننزع الفرامل لننقلب صوتا عاريا للأفكار كما هي. تلك هي متعة التواجد مع لينا.
أشهر الثورة الأولى، 2011، عشاء غير رسمي مع وزير الخارجية الفرنسية حينها، آلان جوبي. ديبلوماسية متبلّدة و طروحات تنافس ترّهات كرونيكور متبلّد الذّهن . ثمّ أعطت لينا شارة الإنطلاقة، دون اتفاق مسبق. تلك النّظرة المتّقدة. إن كنت هنا لإلقاء الدروس، فأنت تفسد السهرة يا سيّد جوبي. و إن كنت هنا لإعطاء الأوامر أو تلقي المعلومات، فأنت تفسد السهرة يا سيّد جوبي. إن كنت هنا لتهنئتنا بالثورة، فاصمت و تمتع بالسهرة يا سيّد جوبي. ذاك كان العرض حينها. وسط أعين الجميع المندهشة من جرأة فتاة نحيفة على القول و الإفصاح
جوان 2013، أمام محكمة بن عروس، قضيّة ولد الكانز. تم طرد من كان حاضرا و إيقاف اثنين وسط المحكمة، و رش الغاز المسيل للدّموع. بحكم أني منعت من الدّخول، كنت خارج ساحة المحكمة، ألملم الغضب و القهر و الخوف. صوت لينا و نظرتها كانتا كافيتين ليتحوّل الطّرد إلى مظاهرة و مواجهة ثمّ كرّ و فرّ. صبّ شجعان الدّولة حينها جام غضبهم عليها. أرادوا إيقافها فافتككناها. فلينا خطّ أحمر
فاصل ذاتي : كلّما أغمضت عيني ناطقا في الرّوح اسم لينا، تمرّ بخاطري صور لها و هي في مواجهة أسطول من الأعوان. شكرا لك بلادي على هاته الذّاكرة، هذا من حسن ما تبادرين به أبناءك.
جوان 2013 ، أسبوع بعد ما حصل ببن عروس، لقاء دولي أو هو مؤتمر، لا أذكر، يحتفي بحرية الأنترنات و تلك المفردات اللتي تسمح لعديد الشّاغرين بالتجوال و التمتع بوهم الصورة. اتفقنا أن نلتقي هناك و أن نفعل كل ما نقدر على فعله. أحد المنظمين لمح في البهو وجود عديد « المدونين البارزين » فأسرع بإقناع أحد السفراء (هولندا أو السويد، لا أذكر. لم أهتم حينها بهذا التّفصيل) بتنظيم لقاء خاص مع المدونين. و ذاك ما تمّ، بعد أن اقتنع الجميع بودّيّة اللّقاء. ذهبنا إلى قاعة محاطة بالحرّاس الخاصّين. ابتدأ اللّقاء. ثمّ نظرت إليّ لينا … تلك النّظرة أعطت شارة البدء لحفل من الحديث المباشر « تأتي للاحتفال بحرية الانترنات في بلد لازال يسجن من أجل محتوى على الأنترنات؟ ما نطلبه هو الشّجاعة و التعامل بالمثل، كما ترى لبلادك انظر للبلاد اللتي تستقبلك ». لم نغادر المؤتمر إلا بعد أن ضمننا تصريحات و بيانات و مراسلات لرئاسة الحكومة بخصوص الخروقات. لم يكن اللقاء ودّيا، ولا مجموعة اللقاءات اللتي تلت. و كانت الإشارة دائما نفسها : نظرة، فابتسامة، فانفجار
في المظاهرة، تعني تلك النّظرة شيئا واحدا فقط : ارفع شعار « الشعب يريد إسقاط النّظام و تقدّم كي يتحرّك الجميع ».
خريف 2019 ، في إحدى الأماكن في قمّرت، حفل « لاباس » . لقاء خاص حول الحزن و تحويله إلى صديق. في الأثناء، تحوّل الحديث المحيط إلى أمور جدّيّة : الانتخابات و التبعات و المتتبعات. نظرة، فابتسامة. « ماذا نفعل؟؟ » « فلنرقص بشغب » … كم أحببت الرّقص معك، على وقع نظرات المحتمين وراء أحكام و صور مسبقة.
ماي 2013، احتفالا بالثلاثين سمحنا لأنفسنا باستضافة آلهة السعادة و النشوة ناشرين دستور الفرح بيننا. انحنيت على ركبتي احتراما للحكاية الرومانسية اللتي قصّها علينا عم الصادق بينما أجابت آمنة بردّ جعلك تنحنين ضحكا. إن كان من ذكرى أحملها ترياقا كل يوم، فهي ذكرى تلك الليلة، 22 ماي 2013. ضحكنا دون ملل، ثمّ في لحظة ما، حين بدأ الجميع يحسون بالتعب، نظرة فابتسامة. كانت قارورة الفودكا تتلألؤ كالعروس المتغنّجة. أذكر أننا فتحناها. لم أكن أعلم حينها أن خلط أكثر من خمس أنواع من الكحول ليس بالضرورة فكرة جيّدة. و هو ما تعلّمته لاحقا. أذكر أننا فتحناها. ثم أذكر أني استفقت صباحا، في الدندان، دون حذاء. لازلت للآن أبحث عن « الكونفارس » … ظلت هاته النادرة عبارتنا المفضّلة « وينو الكونفارس » … لم أجده، و لا أظنّ أنّني سأجده.
اللغة هي السلطة الحقيقية، و التعامل معها لا يتم حسب الطّرق الكلاسيكيّة إن أردنا مقارعتها. كلّما كان الخصم/العدوّ أقوى، كلّما كانت المواجهة أمتع، أليس كذلك؟؟؟ من مكاني الصّغير هنا، سأحفر في جسد اللغة لام لينا وشما أزليّا.
هي اللّتي اخترقت عبيد الموت حتّى لحظة المغادرة.
هي اللّتي أنارت ثلاثة أجيال كالنّجم الثّاقب
فاصل أناني : ما أمرّ الإستفاقة على وطن بلا لينا. لازلت أرفض هذا، عزيزة قلبي.
نص يجبرك على البكاء
دون حاجة للفواصل…منسوب الحب عال وواضح في كل تفاصيل الرواية …ابكتني
Je pleure ma Lynette tous les jours en me disant que ce cauchemar va se dissiper. Jamais je n’ai été triste pour autant. En lisant ces lignes j’ai pu tout voir et tout écouter. Au revoir ma Lynette et merci Aziz pour cette tendresse. Comme toi la vie sans elle est jusque-là impensable et indésirable. « Mon triste coeur bave à la poupe »
Merci